Guiding You to Market Success

عصر التشظي والفرص الضائعة: قراءة في تقرير بيمكو وتأثيره على الاقتصاد السوداني

Blog post description.

التقارير الاقتصادية

6/28/20251 دقيقة قراءة

في تقريره السنوي الصادر في يونيو 2025، يقدم بيمكو (PIMCO)، وهي واحدة من أكبر شركات إدارة الاستثمارات في العالم والمتخصصة في إدارة أدوات الدخل الثابت، رؤيته للأوضاع الاقتصادية العالمية خلال السنوات الخمس المقبلة. ويكتسب هذا التقرير أهمية خاصة نظرًا لمكانة المؤسسة وخبرتها الطويلة، حيث يُعد مرجعًا موثوقًا لصنّاع السياسات والمستثمرين لتوقع المخاطر والفرص المرتبطة بالتغيرات الهيكلية في الأسواق والاقتصاد الكلي. في هذا الإصدار، والذي حمل عنوان عصر التشظي، يتناول بيمكو كيف أن التوازنات القديمة التي حكمت النظام المالي والسياسي العالمي قد تفككت لصالح واقع جديد تحركه السياسة قبل الاقتصاد، ما يزيد من حدة التقلبات ويعيد رسم خارطة التجارة والتمويل الدولي.

يستعرض التقرير أبرز ملامح الاقتصاد الكلي خلال السنوات الخمس المقبلة، وعلى رأسها ارتفاع الديون الحكومية إلى مستويات تحدّ من قدرة صناع السياسات على التدخل عند الأزمات. ففي الولايات المتحدة واليابان وفرنسا، تبدو الديون في مسار غير مستدام طويل الأجل، ما يزيد من احتمالات التقلبات المالية دون التوقع بانفجار أزمة وشيكة. ومع أن الدين يبقى "مزمنًا" أكثر منه "حادًا"، فإن مخاطره تتراكم ببطء وقد تعيد ترتيب أولويات الأسواق على نحو مفاجئ.

التقرير يشير أيضًا إلى إعادة رسم الخريطة العالمية للتجارة والنفوذ المالي. فمع عودة الحمائية، وبروز سياسات جديدة تتراوح من التركيز على الصناعات التقليدية في الولايات المتحدة إلى تجديد الأولوية للإنفاق الدفاعي في ألمانيا، أصبح من الواضح أن المنافسة على الموارد والمراكز الاقتصادية لن تهدأ قريبًا. ولعل أحد الأمثلة الأبرز هو تصاعد الحرب التجارية التي، حتى لو خفّ حدها بتسويات قانونية جزئية، من المتوقع أن تترك أثرًا تضخميًا متفاوتًا بين أميركا والعالم. فعلى حين يتعرض العالم إلى ضغط انكماشي بسبب تراجع الطلب على صادراته، تواجه الولايات المتحدة مخاطر تضخمية إضافية قد تجبر البنك الفيدرالي على تبني مسار نقدي مستقل عن نظرائه.

أبرز ما يطمئن الأسواق في الوقت الراهن هو صعوبة تخلي النظام المالي الدولي عن الدولار كعملة احتياط رئيسية، رغم تراجع حصته في المدفوعات عبر الحدود لصالح العملات الإقليمية والمنصات الرقمية مثل مشروع "mBridge" الصيني. ورغم أن الدولار قد يفقد بعض هيمنته في الهوامش، فإن التقرير يرى أنه لا توجد بدائل جاهزة لتحل محله في مراكز الصدارة.

أما على مستوى الاستثمارات، فيدعو التقرير إلى استغلال "ميزة العائد" التاريخية في السندات ذات الجودة العالية، محذرًا في الوقت نفسه من التقييمات المرتفعة للأسهم التي وصلت مستويات شبيهة بتلك التي سبقت تصحيحات كبرى في الماضي. ويشير إلى أن علاوة المخاطرة بين الأسهم والسندات باتت في أدنى مستوياتها منذ عقود، ما يعني أن مجرد عودة هذه العلاوة إلى مستوياتها التاريخية قد تؤدي إلى هبوط حاد في الأسهم أو صعود قوي في السندات – أو كليهما معًا.

ومن اللافت أن "بيمكو" يوصي بتنويع المحافظ على نطاق عالمي واسع، استنادًا إلى توقعات متباينة للتضخم والنمو بين الاقتصادات المتقدمة والناشئة. إذ تظل بعض الأسواق الناشئة أكثر قدرة على الصمود بفضل ديون معتدلة وسياسات مالية أكثر انضباطًا، ما يخلق فرصًا جذابة لتوزيع المخاطر والاستفادة من عوائد مغرية. في المقابل، تعاني أوروبا من نمو منخفض وتكاليف طاقة مرتفعة وتراجع تنافسي في التكنولوجيا، بينما تواجه الصين مسارًا نموذجيًا أقل طموحًا مع تحولها من الإنفاق العقاري إلى الاستهلاك والتصنيع الموجه بالتقنيات.

ومع أن التقرير يطرح بعض السيناريوهات المقلقة – مثل فقدان مصداقية الفيدرالي أو تسارع التحولات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي – فإنه يعتبرها أحداثًا منخفضة الاحتمال لكنها عالية التأثير في حال وقوعها. وفي هذه البيئة، يبرز دور الإدارة النشطة التي تملك القدرة على التحرك بين السندات السيادية، والائتمان الخاص، والتمويل القائم على الأصول، لتحقيق العوائد وضبط المخاطر في آن واحد.

يرى واضعو التقرير أن الفترة المقبلة ستعيد إلى الأذهان سمات اقتصادية تميزت بها عقود ما قبل الأزمة المالية العالمية، حين لم تكن الأسواق محمية دائمًا بتدخل حكومي ضخم، وكانت الأزمات الائتمانية جزءًا طبيعيًا من الدورة الاقتصادية. واليوم، مع تقليص حيز الإنفاق الحكومي وعودة التركيز على العوائد الحقيقية وجودة الأصول، تلوح في الأفق فرصة لبناء محافظ أكثر توازنًا وصمودًا.

أما في ما يخص الاقتصاد السوداني في ظل الوضع الراهن، فإن هذا الواقع العالمي يحمل في طياته تحديات وفرصًا متداخلة. من ناحية، يواجه السودان صعوبة في الوصول إلى التمويل الدولي بفعل هشاشة الاستقرار السياسي والاقتصادي الداخلي، ما يجعل بيئة التقلبات العالمية أكثر إرباكًا له. في المقابل، يمكن اعتبار التحول نحو عالم متعدد الأقطاب وتراجع الاعتماد على الدولار فرصة سانحة لإقامة شراكات جديدة مع الاقتصادات الآسيوية والإفريقية الطامحة لزيادة نفوذها التجاري والمالي. كما أن تنويع مصادر العملة الصعبة والانفتاح على أسواق الدين المبتكرة مثل السندات الخضراء أو التمويل القائم على الأصول، قد يتيحان للسودان تمويل مشاريعه الإنتاجية وتقليل هشاشة اقتصاده أمام الصدمات الخارجية. ومن الفرص المتاحة أيضًا الاستثمار في القطاعات التي تقل حساسيتها للتقلبات العالمية، كالزراعة والصناعات الغذائية والطاقة البديلة، بما يعزز الاكتفاء الذاتي ويخفف وطأة الاضطرابات في سلاسل الإمداد الدولية.

في النهاية، "عصر التشظي" ليس مجرد مصطلح بل واقع يفرض على السودان – كما يفرض على العالم – إعادة التفكير في قواعد اللعبة الاقتصادية. فمن لا يبادر بتحديث سياساته وخططه الاستثمارية سيفوته الكثير، بينما من يتحلى بالمرونة والانفتاح على فرص التمويل والتحالفات الجديدة قد يجد في هذا العصر المتغير نافذة أمل للتعافي والنمو.